فصل: (فرع: ما يجوز به الرمي)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[مسألة:الانطلاق إلى المزدلفة وما يصنع بها ومتى يخرج منها]

فإذا غربت الشمس.. دفع إلى المزدلفة؛ لحديث علي: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفع إليها بعد الغروب».
وسميت مزدلفة بذلك؛ لاجتماع الناس بها، قال الله تعالى: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ} [الشعراء: 64]، أي: جمعناهم.
ويمشي عند الازدحام على سجية مشيه؛ لما روي: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يشير إلى الناس بيده ويقول: «على رسلكم " عند الازدحام. فإذا وجد فرجة.. أسرع المشي؛» لما روي: أنه «سئل أسامة بن زيد عن سير رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عرفة إلى المزدلفة، فقال: (كان يسير العَنَق، فإذا وجد فرجة نصَّ» يعني: رفع في السير، وظهر فيه، و(النص): مأخوذ من الرفع؛ لأنه رفع في بيانه إلى أقصى غايته، وسميت المنصة منصة؛ لظهورها وارتفاعها.
والمستحب: أن يمر إلى المزدلفة على طريق المأزِمين؛ لـ: (أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلكه) فإن سلك الطريق الآخر.. جاز.
فإذا بلغ الإمام المزدلفة.. جمع بين المغرب والعشاء في وقت العشاء؛ لـ: (أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بينهما فيها).
قال في " الإملاء ": (فإن خاف فوت النصف الأول من الليل قبل أن يوافي مزدلفة.. نزل وصلى في أي موضع كان لئلا يفوت وقتها المختار). فإذا وافى مزدلفة.. قال الشافعي: (صلى قبل حط رحله)؛ لـ: (أن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - هكذا فعلوا).
قال الشافعي: (فإن صلى كل واحدة منهما في وقتها.. صح).
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز أن يصلي المغرب بعرفة ولا في طريقه، فإن فعل ذلك.. أعادها مع العشاء بمزدلفة).
دليلنا: أن كل صلاتين جاز الجمع بينهما في وقت أحدهما.. جاز فعل كل واحدة منهما في وقتها، كالظهر والعصر بعرفة.
قال الشيخ أبو إسحاق: ولأن الجمع رخصة لأجل السفر، فجاز له تركه، وهذا يدل من قوله: (أن الجمع بمزدلفة لأهل السفر الطويل).
فأما أهل مكة والمقيمون بها: فإنما لهم ذلك على القول القديم.
ويبيت بها لـ: (أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بات بها)، وهذا المبيت ليس بركن في الحج، في قول عامة العلماء.
وقال الشعبي والنخعي: هو ركن، فإن تركه.. لم يصح حجه.
دليلنا: ما ذكرناه من حديث الحارث بن مضرس. وروي عنه ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «الحج عرفة، فمن أدركها.. فقد أدرك الحج، ومن فاته عرفة.. فقد فاته الحج».
ولأنه مبيت فلم يكن ركنا، كالمبيت بمنى ليلة عرفة.
إذا ثبت أنه ليس بركن.. فقال الشيخ أبو حامد: هل هو سنة، أو هيئة؟ فيه قولان. وسمى ما وجب بتركه الدم سنة مثل الرمي، كالسنن التي يقتضي تركها سجود السهو في الصلاة، وما لا يجب بتركه الدم، كالاضبطاع والرمل هيئة.
وأما الشيخ أبو إسحاق: فقال: هل هو واجب أم لا؟ فيه قولان.
فإذا قلنا: إنه سنة على عبارة الشيخ أبي حامد، أو واجب على عبارة الشيخ أبي إسحاق.. وجب بتركه الدم. ووجهه: قوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ترك نسكا.. فعليه دم».
وإذا قلنا: إنه هيئة.. لم يجب بتركه الدم. ووجهه: حديث الحارث بن مضرس، ولأنه مبيت، فلم يجب بتركه الدم، كالمبيت بمنى ليلة عرفة.
وفي أي موضع من المزدلفة بات.. أجزأه.
قال الشافعي: (وحد مزدلفة: ما بين مأزمي عرفة إلى مأزمي محسر على يمينك وشمالك من تلك المواطن الظواهر، والقوابل والشعاب). والمأزمان - بوادي محسر ـ ليستا من المزدلفة؛ لقوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مزدلفة كلها موقف، وارتفعوا عن بطن محسر».
والمستحب له: أن يبيت بها إلى أن يطلع الفجر الثاني من يوم النحر؛ لـ: (أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بات بها إلى أن طلع الفجر، وصلى بها الصبح)، فإذا طلع الفجر.. فالمستحب: أن يصلي الفجر في أول وقتها، وهكذا يستحب في سائر الأيام إلا أن
التغليس في صلاة هذا اليوم أشد استحبابا من سائر الأيام؛ لما روي عن ابن مسعود: أنه قال: «لم يصل رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الصبح قبل وقتها إلا صلاة الصبح بجمع ـ يعني: بالمزدلفة ـ فإنه صلاها قبل وقتها» ولم يرد: أنه صلاها قبل طلوع الفجر؛ لأن ذلك لا يجوز، وإنما أراد: أنه صلاها قبل وقتها المعتاد؛ لأنه كان في سائر الأيام لا يصلي الصبح حتى يظهر الفجر ويستبين، وفي ذلك اليوم صلاها مع أول طلوع الفجر.
فإذا فرغ من الصلاة.. فالسنة أن يأتي إلى المشعر الحرام، ويقف على (قزح): وهو جبل بالمزدلفة، وهو المشعر الحرام، ويستقبل القبلة، ويدعو الله تعالى إلى أن يسفر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198]. وأقل أحوال الأمر الاستحباب. وأيضا فإن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل هكذا.
فإذا أسفر.. استحب أن يدفع قبل طلوع الشمس، فإن أخر الدفع حتى طلعت الشمس.. كره؛ لما روى سفيان، عن ابن طاووس، عن أبيه: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفع من المزدلفة قبل طلوع الشمس، وقال: «إن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون من عرفة قبل غروب الشمس، ومن المزدلفة بعد طلوعها، وكانوا يقولون: أشرق ثبير كيما نغير» فأخر هذه وقدم هذه؛ ليخالف هدينا هدي أهل الأوثان والشرك، و(الهدي): الطريقة والسمت.
وإن خرج من المزدلفة بعد نصف الليل.. فلا شيء عليه؛ لأن الواجب عليه أن يحصل بالمزدلفة في جزء من النصف الثاني من الليل، ولا يجب عليه أن يكون بها في النصف الأول من الليل.
وقال أبو حنيفة: (إذا لم يكن بالمزدلفة عند طلوع الفجر.. كان عليه دم).
دليلنا: ما روي: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أم سلمة فأفاضت في النصف الأخير من الليل من المزدلفة». وروت عائشة: «أن سودة استأذنت رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تفيض من المزدلفة في النصف الأخير من الليل، وكانت امرأة ثبطة، فأذن لها رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليتني كنت استأذنته كما استأذنته سودة».

.[فرع: أخذ حصى الرمي وصفتها]

قال الشافعي: (ويأخذ من المزدلفة الحصى للرمي، ويكون بقدر حصى الخذف).
قال الشيخ أبو حامد: وأطلق الشافعي هذا، وإنما أراد أنه يأخذ منها الحصى التي يرمي بها جمرة العقبة، وهي سبع حصيات.
قال الصيمري: وقد قال قوم يأخذ منها سبعين حصاة، وهو خلاف السنة؛ لما «روى الفضل بن العباس قال: قال لي النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غداة يوم النحر وهو على ناقته: «القط لي سبع حصيات من حصى الخذف " قال: فلقطتهن، فلما وضعتهن في كفه.. قال: «بمثل هذا فارموا " قالها ثلاثا».
ولأنه يستحب له إذا أتى الجمرة أن يبدأ بالرمي تحية لها، فإذا أخذ الحصى من المزدلفة.. لم يشتغل بغير الرمي.
ويستحب له أن يلتقطهن وأن لا يكسر الحجارة كما يفعل رعاع الناس؛ لحديث الفضل بن العباس.
والمستحب: أن يكون ما يأخذه مثل حصى الحذف؛ لما ذكرناه من حديث الفضل بن العباس.
وروي: أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا أيها الناس لا يقتل بعضكم بعضا، وإذا رميتم الجمرة.. فارموا بمثل حصى الخذف».
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وحصى الخذف: أصغر من الأنملة طولا وعرضا)
ومنهم من قال: بقدر النواة، ومنهم من قال: مثل الباقلاء.
قال ابن الصباغ: وهذه المقادير متقاربة، يقال: خذف الحصاة: إذا تركها على رأس سبابته، ووضع إبهامه عليها، وخذف بالحصى: إذا رمى بها.
وإن رمى بحجر كبير.. أجزأه؛ لوقوع اسم الحجر عليه، وكره له ذلك؛ لقوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إياكم والغلو في الدين».
وإن أخذ الحصى من غير المزدلفة.. أجزأه؛ لأن الاسم يقع عليه.

.[فرع: صفة المشي في المزدلفة ووادي محسر]

وإذا دفع من المزدلفة.. فالمستحب: أن يمشي على سجية مشيه.
قال الشيخ أبو إسحاق وابن الصباغ: فإذا وجد فرجة.. أسرع؛ لما ذكرناه في الدفع من عرفات، ولم يذكر الشيخ أبو حامد ذلك إلا في وادي محسر. فإذا بلغ إلى بطن محسر.. أسرع ـ إن كان ماشيا ـ وحرك دابته ـ إن كان راكبا ـ قدر رمية حجر؛ لما روى جابر: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أتى محسرا.. حرك قليلا، وسلك الطريق الوسطى».
قال الشيخ أبو حامد: وروى العباس بن عبد المطلب: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما دفع من المزدلفة.. كان يسير وعليه السكينة والوقار، فلما هبط وادي محسر.. أوضع».
و(الإيضاع): هو الإسراع في السير.
وروي: (أن عمر ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما هبط إلى وادي محسر... حرك راحلته، وأنشأ يقول:
تشكو إليك قلقا وضينها... مخالفا دين النصارى دينها معترضا في بطنها جنينها)
قال الطبري: وقيل: إنما سن الإسراع في وادي محسر؛ لأنه كان موقفا
للنصارى، فخالفهم النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما فعلوا. وهذا صحيح يدل عليه قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مخالفا دين النصارى دينها وإن ترك الإسراع.. فلا شيء عليه؛ لأنه لم يترك نسكا.

.[مسألة:أعمال يوم النحر والبدء برمي جمرة العقبة]

وإذا أتى إلى منى يوم النحر.. بدأ برمي جمرة العقبة فيرمي بسبع حصيات، وهي أول جمرة يجدها إذا جاء من مكة والرمي: من مناسك الحج: لما روي: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رماها يوم النحر بسبع حصيات) وقال: «خذوا عني مناسككم». والمستحب: أن لا يرميها حتى تطلع الشمس؛ لما روى جابر: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رمى جمرة العقبة ضحى يوم النحر».
«وروى ابن عباس قال: قدمني رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أغيلمة من بني عبد المطلب على حمرات من المزدلفة، فجعل يلطح أفخاذنا، ويقول: «أبنيي، لا ترموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس. وقوله: (أبنيي): تصغير ابني».
فإن رمى في النصف الأول من الليل.. لم يصح. وإن رمى في النصف الثاني من الليل.. صح، وبه قال عطاء وعكرمة.
وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد: (يجوز رميها بعد طلوع الفجر الثاني من يوم النحر، ولا يجوز قبله).
وقال الثوري، والنخعي: لا يجوز رميها قبل طلوع الشمس؛ لحديث ابن عباس.
دليلنا: ما روي «عن أم سلمة: أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرها أن تعجل الإفاضة لترمي، وتوافي صلاة الصبح بمكة، وكان يومها من رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأحب أن توافيه وهي حلال». ولأن بعد نصف الليل وقت للدفع من المزدلفة، فكان وقتا للرمي قياسا على ما بعد الفجر. وحديث ابن عباس نحمله على الاستحباب، بدليل حديث أم سلمة.
ويستحب أن يرميها من بطن الوادي، وهو أن يستدبر الكعبة ويستقبل الجمرة؛ لما روى جابر: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رمى جمرة العقبة وهو مستدبر للكعبة من بطن الوادي» فإن جعل الكعبة على يساره، ومنى على يمينه ورماها.. جاز؛ لما روي: (أن ابن مسعود رمى هكذا)، وقال: (والذي لا إله إلا غيره، إن هذا هو المقام الذي أنزلت على رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه سورة البقرة).
ويستحب أن يرمي راكبا، وأن يكبر مع كل حصاة؛ لـ: (أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رماها راكبا)، و: (كان يكبر مع كل حصاة)، ويرفع يده حتى يرى بياض إبطه. ولأن ذلك أعون للحاج على الرمي.

.[فرع: متى تقطع التلبية]

ولا يقطع الحاج التلبية إلا مع أول حصاة يرمي بها جمرة العقبة، ويبتدئ بالتكبير، وكذلك المعتمر لا يزال يلبي حتى يفتتح الطواف.
وقال مالك: (لا يلبي الحاج بعد الوقوف، وأما المعتمر: فإن أنشأ العمرة من الميقات.. فإنه يقطع التلبية إذا دخل في الحرم، وإن أحرم بها من أدنى الحل... قطع التلبية إذا رأى البيت).
دليلنا: ما روى الفضل بن العباس، قال: «كنت رديف رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من جمع إلى منى، فلم يزل يلبي حتى يرمي جمرة العقبة».
وروى ابن عباس: أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يلبي المعتمر حتى يستلم الحجر الأسود».
وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتمر ثلاث عمر فكان لا يزال يلبي حتى يفتتح الطواف».

.[فرع: ما يجوز به الرمي]

ولا يجوز الرمي إلا بالحجر، فإن رمى بغيره من الكحل والزرنيخ والتوتياء وإن كان مستحجرا، أو رمى بذهب أو فضة.. لم يجزه ذلك، وبه قال مالك وأحمد.
وقال أبو حنيفة: (يجوز الرمي بالحجر وبكل ما كان من جنس الأرض مثل: الكحل والزرنيخ والنورة إلا الذهب والفضة، فإنه لا يجوز الرمي بهما).
وقال داود وأهل الظاهر: (يجوز الرمي بكل شيء حتى لو رمى بعصا وبدمية.. أجزأه)، واحتجوا: بأن سكينة بنت الحسين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رمت بست حصيات، فأعوزتها السابعة، فقلعت خاتمها ورمت به).
دليلنا: قوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عليكم بحصى الخذف» وهذا أمر بالحصى، والأمر يقتضي الوجوب. ولأنه لا يقع عليه اسم الحجر، فلم يجزه، كما لو رمى بثوب.
وأما ما روي عن سكينة: فلا حجة فيه؛ لأنها تابعية، وفعل التابعي ليس بحجة. على أنه يحتمل أنها رمته لفقير لتتصدق عليه به لا للرمي، أو يجوز أن يكون فيه فص من ياقوت أو عقيق أو فيروزج، وأيها كان.. فهو حجر يجوز الرمي به.

.[فرع: الأماكن التي يكره أخذ الحصى منها]

قال الشيخ أبو حامد: ويكره أخذ الحصى من ثلاثة مواضع:
أحدها: من الموضع النجس، مثل: الحش وغيره؛ لأن الرمي قربة، فكره بالنجس، ولكيلا يباشر النجاسة بيده.
والثاني: من المسجد؛ لأن حصى المسجد قد ثبت لها فضيلة المسجد، وتوقي الأنجاس، فكره إخراجها إلى موضع لا توقى فيه الأنجاس.
والثالث: من جمرة، ويومي بها؛ لما روي عن ابن عباس: أنه قال: (الرمي قربان فما تقبل منه.. رفع، وما لم يتقبل منه.. ترك) فكره الرمي بما رد، فإن رمى بما قد رمي به.. أجزأه، سواء كان هو الذي رمى به أو غيره.
وقال أحمد: (لا يجزئه).
وقال المزني: يجوز أن يرمي بما رمى به غيره، ولا يجوز أن يرمي بما رمى به هو.
دليلنا: (أن ابن مسعود أخذ الحصى من الجمرة، ورمى به)، ولأنه يقع عليه اسم الحجر فأجزأه، كما لو لم يرم به. هذه طريقة البغداديين من أصحابنا.
وقال المسعودي [في "الإبانة" ق \ 208] إذ رمى بحجر رمى بها غيره أو رمى هو بها في غير هذه الجمرة، أو في هذه الجمرة في غير هذا اليوم.. أجزأه، وإن رمى هو بها في هذه الجمرة في هذا اليوم، ثم أراد رميها بها ثانيا.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه يجزئه، كما لو عاد إليه الطعام الذي كفر به، فيجزئه أن يعطيه مسكينا آخر.
والثاني: لا يجزئه، ولا بد من حصاة أخرى، كما لا يجوز أن يعطي المد الثاني إلا مسكينا ثانيا.

.[فرع: كيفية الرمي وبعض صوره]

ويجب أن يرمي، فإن أخذ حصاة وتركها في المرمى.. لم يجزه؛ لأنه لم يرم. ويجب أن يرمي واحدة واحدة، فإن رمى بسبع حصيات مرة واحدة.. لم يجزه إلا حصاة واحدة.
وقال عطاء: يجزئه ولكن يكبر لكل حصاة تكبيرة.
وقال الأصم: يجزئه.
وقال الحسن: إن كان جاهلا.. أجزأه.
دليلنا: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رمى واحدة واحدة».
وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «خذوا عني مناسككم». ولأنه نقل الخلف عن السلف، فثبت: أنه إجماع.
وإن رمى حصاة، ثم أتبعها الثانية قبل وقوع الأولى، فإن وقعت الأولى، ثم وقعت الثانية.. أجزأه. وإن وقعت الثانية، ثم وقعت الأولى.. ففيه وجهان، حكاهما المسعودي [في "الإبانة" ق \ 208]:
أحدهما: لا يجزئه؛ لأن هذا أبلغ من أن يرمي حصاتين دفعة في الجمع.
والثاني: يجزئه، وهو الأصح، اعتبارا برميه.
وإن رمى حصاة في الهواء فوقعت في المرمى.. لم يجزه؛ لأنه لم يقصد الرمي إلى المرمى.
وإن رمى حصاة فوقعت على أخرى، ووقعت الثانية في المرمى.. لم يجزه؛ لأن الثانية حصلت في المرمى بغير قصده. وإن رمى فوقعت على محمل أو عنق بعير أو ثوب، ثم وقعت في المرمى من غير نفض ممن وقعت عليه.. أجزأه؛ لأنها وقعت في المرمى بقصده وفعله، وإن نفضها من وقعت عليه حتى وقعت في المرمى.. لم يجزه.
وقال أحمد: (يجزئه).
دليلنا: أنها حصلت في المرمى بغير فعله، فلم يجزه، كما لو وقعت في موضع فأخذها غيره حتى تركها في المرمى.
وإن وقعت على محمل أو عنق بعير أو ثوب إنسان، ثم وقعت في المرمى، ولم يدر: هل وقعت في المرمى بنفسها أو بتحريك ممن وقعت عليه؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو حامد، وغيره حكاهما وجهين:
أحدهما: يجزئه؛ لأن الرمي قد وجد منه وحصلت في المرمى، فالظاهر: أنها حصلت فيه بفعله؛ لأن الأصل عدم فعل غيره في حصولها فيه..
والثاني: لا يجزئه؛ لأنه يشك: هل حصلت بفعله، فيسقط الفرض عنه، أو بغير فعله، فلم يسقط الفرض عنه؟ والأصل بقاء الفرض في ذمته.
وإن رمى بحصاة وشك: هل وقعت بالمرمى أم بغيره؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: وهو قوله القديم ـ: (أنها تجزئه)؛ لأن الظاهر إذا رمى بها: أنها قد حصلت في المرمى.
والثاني ـ قاله في الجديد ـ: (أنه لا تجزئه)؛ لأنه يشك في سقوط الفرض عنه، والأصل بقاؤه في ذمته.
وإن رمى بحصاة إلى المرمى فوقعت على مكان أعلى منه، ثم تدحرجت منه ووقعت في المرمى.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجزئه؛ لأنها حصلت في المرمى بفعله، ولم يوجد من غيره فعل في حصولها فيه.
والثاني: لا يجزئه؛ لأنها لم تحصل في المرمى بفعله، وإنما حصلت فيه لعلو الموضع الذي وقعت فيه.

.[مسألة:موضع الذبح ووقته]

فإذا فرغ من رمي جمرة العقبة، فإن كان معه هدي.. ذبحه؛ لما روى أنس: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما رمى جمرة العقبة يوم النحر.. رجع إلى منزله بمنى، ثم دعا بذبح فذبحه، ثم دعا بالحلاق فأعطاه شقه الأيمن فحلقه، فدفعه إلى أبي طلحة ليفرقه بين الناس، ثم أعطاه شقه الأيسر فحلقه، ثم دفعه إلى أبي طلحة ليفرقه بين الناس».
ويجوز النحر في جميع منى، و(حدها): ما بين بطن وادي محسر إلى جمرة العقبة: لقوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «منى وفجاج مكة كلها منحر».

.[مسألة:الحلق والتقصير]

ثم يحلق رأسه؛ لحديث أنس. وإن قصر شعر رأسه.. جاز؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27].
فذكر الحلق والتقصير، ولم يرتب أحدهما على الآخر، فدل على: أنه مخير بينهما.
وروى جابر: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أصحابه أن يحلقوا أو يقصروا» والحلق أفضل من التقصير؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27].
فذكر الحلق قبل التقصير، والعرب تبدأ بالأهم فالأهم، ولـ: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حلق رأسه ولم يقصر» ولا يفعل إلا الأفضل.
وروى ابن عمر: أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «رحم الله المحلقين " فقيل: يا رسول الله والمقصرين، فقال: «رحم الله المحلقين " إلى أن قال في الرابعة: «والمقصرين» فدل على: أن الحلاق أفضل.
والمستحب: أن يحلق جميع شعر رأسه، كما فعل النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وإن أراد التقصير.. فالمستحب: أن يقصر من جميع شعر رأسه كالحلق، وإن اقتصر على حلق ثلاث شعرات أو تقصيرها.. أجزأه، ولا فرق بين أن يقصر من الشعر الذي يحاذي الرأس أو من الشعر الذي نزل عن حد الرأس.. فإنه يجزئه.
وحكى ابن الصباغ وجها آخر: أنه لا يجزئه تقصير ما نزل عن حد الرأس كالمسح. وليس بشيء؛ لأن المقصود تقصير شعر الرأس، وذلك يقع على ما حاذى الرأس وعلى ما نزل عنه، بخلاف المسح: فإن المقصود منه مسح الرأس، وذلك لا يقع على ما نزل عن حد الرأس. هذا مذهبنا.
وقال مالك: (لا يجزئه إلا الأكثر).
وقال أبو حنيفة: (لا يجزئه أقل من الربع).
دليلنا: أنه حلق أو قصر من شعر رأسه ما يقع عليه اسم الجمع المطلق، فأجزأه، كالأكثر: على مالك، والربع: على أبي حنيفة.
ولا فرق بين أن يحلق بالموسى أو بالنورة، أو يقصره بالجلم أو بأسنانه، أو يقطعه بيده، أو ينتفه.. فإنه يجزئه؛ لأن القصد إزالته، وقد وجد.
وإن كان أصلع، فإن كان على رأسه شعرة أو شعرتان أو ثلاث.. وجب عليه إزالة ذلك، وهكذا لو كان على رأسه زغب.. وجب عليه أن يزيل منه ما يقع عليه اسم الجمع المطلق وهو ثلاث.
وإن لم يكن عليه شعر أصلا، بأن حلق ولا شعر عليه، أو كان قد حلق واعتمر من ساعته.. فالمستحب له: أن يمر الموسى على رأسه.
قال الشافعي: (وأحب إلي لو أخذ من شعر لحيته أو شاربه، لكي يقطع شيئا من شعره لله تعالى، ولا يجب عليه ذلك)؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27].
فخص الرأس بالحلق والتقصير، ولا يجب عليه إمرار الموسى على رأسه.
وقال أبو حنيفة: (يجب عليه إمرار الموسى على رأسه).
دليلنا: أن الله تعالى أمر بحلق شعر الرأس، وهذا لا شعر على رأسه. فلم يتناوله الأمر.
وأما النساء: فلا يحلقن، وإنما يقصرن؛ لما روى ابن عمر: أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس على النساء حلق، ولكن على النساء التقصير». ولأن الحلق في النساء مثلة، فلم يؤمرن به.
قال الشافعي: (وأحب أن تجمع ضفائرها، وتأخذ من أطرافها قدر أنملة؛ لتعم الشعر كله، وإن قصرت ثلاث شعرات.. أجزأها كالرجل).
قال ابن الصباغ: ويستحب أن يدفن ما حلق أو قصر من الشعر.